8.14.2013

"ضرب الحبيب زبيب"

"ضرب الحبيب زبيب"
هو العزاء الذي أقنعت به نفسي عندما جرحني الأبيض المتوسط. 

في حيفا، حديقة جميلة تطل على الميناء المشغول بآليات ضخمة، تحمل المستوعبات الحديدية لتنقلها من السفن الراسية بسلام إلى ذلك الرصيف المزعج، وليس الازعاج ما يليق بمدينة لم يزرها الشعراء ليكتبوا إبداعهم كما قال ناجي العلي، وهذا ما أبعدني قليلاً لأعتلي فوق الميناء وأطل عليه من علٍ، أمضيت عمراً وأنا أحلم بشرفةٍ على البحر، أراقب حركة السفن والملائكة في المياه الزرقاء يفصلها خط صغير عن السماء المسالمة، لكن في حيفا ليس عليك إلا أن تقف على رصيف أي شارع فوق حديقة البهائيين الجميلة، لترى تلك القبة الجميلة التي تكاد أن تضيء، وسط حقولٍ خضراء، تنتهي بذلك الحلم، أقف مبهوراً، على يميني فتاتين تلتقطان صوراً، وهما مثلي يقبعن تحت تأثير هذا السحر للمرة الأولى، وعلى الجهة الاخرى رجل وامرأته توارثا العداء منذ خمس وستين عاماً، وأصر على  إزعاجهم بطلبي منهم أن يتحركا لأصور فتاة جميلة تحمل أسم شابٍ أقصاه العمر بعيداً عن حيفا، ويتذكرها كل صباح منذ ثلاث عشرة سنة، في تلك الصحراء البعيدة،،، صحراء بعيدة وحيفا قريبة! ألعن سخرية القدر، وصاحب البيت الذي أرى شرفته التي تمنيت، وألعن زمناَ مضى جعلك تدفع ضريبته في تلك الصحراء. 

البيوت التي تمر بك وأنت في طريقك إلى كل هذا الجمال، تحمل طابعنا، تفاصيلنا، خصوصيتنا، وتحمل أيضاً أسماء عبرية، وسكان غرباء، وأشكال لا تنسجم وتاريخ المدينة، حيفا مدينة الشعر، ما عليك سوى أن تسكنها لتصبح شاعراً، فلو رأيت مثلي الأبيض المتوسط بين شجرتي صنوبر، وكتبت فيهما غزلاً، سيصبح بعد بضع سنين سلاماً وطنياً. 

خلف السور العظيم، أترجل من الحافلة، وأقف بجانب تاريخٍ له من العمر ما يكفي لإحراج الغزاة، فرنسا ما زالت تلعنه وتلعن نابليونها بسبه، ولولا أنني لا أريد لباريس أن تجد عزاء لنفسها لقلت أنكم تماماً مثل الآخرين "لا خبزٍ لكم في مثل هذه المدينة" فكل الجيوش تتكسر على أقدام السور، مثل الأمواج ولا يبقى سوى الزبد، ولو استطعت أن تقاوم السحر قليلاً وتنظر إلى الناحية المعاكسة للسور، لرأيت حاجَة تحمل صنارتها وتنسج صوفاً على شُرفتها القديمة، شُرفتها تلك ليست سوى جزء من لوحة تحكي قصص البيوت. 

ولو سرت على السور لن تترك باحة كنيسة إلا لتدخل في حرم جامع، أو هيبة منارة، آه منها المنارة، تلك التي ترشد كل الضائعين والقباطنة والقراصنة والهواة إلا أنا، كيف بربك تتركينني ضائعاً وعندما أجد نفسي أتوه مرة أخرى فيك ومرتين في لعنة الماضي، وتلك الفتاة تسير بجانبي تملك سحرين، سحر عيونها، وسحر اسمها الذي يحمل قصص وحكايات مدينة أخرى تسكن الشاطئ نفسه لو سرنا نحو الجنوب، أهمس لها أنَ كيف لي أن أجلب أولادي إلى المكان، كيف لي أن أقول لهم أني أريد التسلل إلى بلدي، كيف لي أن أبرر الهزيمة، كيف لي أن أورثهم حب البلاد ورائحتها وحجر كن حجار عكا، أما هي فتصمت، وأروح أفكر في نفسي أي هزيمة سيتعرض لها من أحب تلك الفتاة ومنعه الدهر عنها، وربما لهذا قررت مسبقاً أن لا يحمل اسم حبيبتي اسم مدينة أو قضية، فقلبي الهش لا يحتمل هزيمتين. 

عكا لا تصلح للشعر، فالشعر فيها هرطقة، ومجرد كلام مبتذل، ففي عكا ليس مثل الصمت تعبيراً عن الجمال، ولو رأيت شاباَ يقفز من فوق السور نحو البحر لا تبدي رأي، فهو يعرف البحر كما تعرف أنت وسادتك، لا قيمة للوقت هناك، فهو يذوب كما يذوب اسمك الذي تكتبه على الشاطئ بفعل الموج.  

بين حيفا وعكا، جلست أتبادل الحديث مع صياد، يضع قبعة فرنسية، وجعبة بيضاء ويحمل صنارته وطُعمَه، وينتظر الأمواج، لا أحتاج رؤية وجهه لأدرك خبرته، وليس بعيد عنا صياد أخر، يعلم أبنه كيف يقرأ الموج ويكتب المستقبل، لا أدري لماذا تذكرت ما قاله لي شاب في يافا قبل أسبوع أن الصيد في دمهم، ولو منعتهم عن الصيد سيموتون، أحقاً يورث الصيد، مثل العيون والوطن. 

أسير على شاطئ أسموه نهاريا بعدما صلبوا عليه قرية الزيب، لتعيث بها الغربان فسادا، ولأن التاريخ جديد نسوها، ونسوا أن الصخور الجميلة استقرت هنا منذ بدأ الخليقة لجاذبيتها، تلك الصخور التي قررنا صعودها وفقط عندها أثر الماء في الصخور التي أصبحت حادة كالسكاكين، وليس مثلي من يقاوم أغراء المتوسط لتجرحه الصخور، ويقول في نفسه "ضرب الحبيب زبيب" ويكمل الطريق.  

لو كنت أيها المتوسط جرحت قدمي لتذكرني بك تلك العرجة الخفية، اللاإرادية فقد 
أفلحت، لكن كيف لمثلك الافتراض أن سحرك في عيني قد يزول





1 comment:

  1. كلمات تدل على مدى الألم الذي ابعدنا عن بلادنا ,, جميل هذا الوصف لتلك المدن وتلك المعاناة , دمت مميز في احساسك الذي يرسم لنا الواقع بكاميرتك وقلمك

    ReplyDelete