8.03.2013

مقدسية


على الدرج، بين قبة الصخرة ومسجد الاقصى، وبعد أنتهاء الحديث الرائع مع جميلتين لم أعرفهما من قبل أحداهما تملك أبتسامة ساحرة، والاخرى يكتسي وجهها الخجل، سرت في الباحات يخالجني شعور غريب، أتعرفون كيف يشعر من فقد رجله، أو أحدى يديه، هو هذا الشعور الذي هيمن على نفسي. 

داخل القدس العتيقة، كنت أسابق الوقت علي أمر بكل الطرقات، بكل المساجد والكنائس والاديرة والتكايا، وأن لا أصل لما يدعى حي اليهود كان تماماً كالفقد، لا أذكر كم مرة تجاوزت القدس، لأرى ذالك النور عندما تستوي قدماي في طريق بيت لحم، كم كان أملي ضعيف أن أراها بكامل هيبتها، بحجارة أقدم من التاريخ، بذكرى كل أولاءك الذين درسنا عنهم في المدارس، وسمعنا شيوخ المساجد يتحدثون عنهم في كل خطبة. 

في الطرقات أسير ويملأني الخوف، لا أريد أن يعلو صوت خطواتي فأيقظ ملاكاً يستريح، ولا أريد أن أمر بين أطفال يلعبون كرة القدم في "زقة"، خائف من أكون نشازاً في تقاسيم المدينة، بحذر أطرح السلام على الناس لأني لا أريد أن تلتهي تلك السيدة عن مفاصلة بائع الملابس في الجهة اليمنى من خان الزيت، ولا أريد لهؤلاء القوم ذوي الوجوه البيض والشعر الاصفر أن يلتهوا بي ويضيعوا ما يقول لهم دايلهم السياحي. 

طوال الطريق، وأنا أدخل زقة لا أعرفها وأخرج حافظاً لما دخلت، أتذكر ذلك الجندي الاسرائيلي الذي يحمل هاتفه الذكي، وسط الفلسطينين، ولا يرى أحد، لا يرى أحد أبداً، وربما يرى ولا يأبه، أحقاً يمكن له أن ينعم بما يكفي من السلام وهو عدو، وأنا أسير غريباً !!

عن القدس لا أستطيع أن أستعير من قاموسي كلمات جميلة، فليس الكلام قرباناً كافياً، لوصف تلك الطرقات التي تفوح منها رائحة التاريخ، والزعتر البري، فحتى شياطين الشعر لا تجدها في القدس العتيقة. 

يوقفني ليسأل، جندي أخر، وليس لي إلا أن أجيبه، إلى أين تذهب؟ 
ألعن خمس وستون سنة مضت، أرغمتني أن أنقل نفسي من فصل التاريخ إلى فصل الهزيمة، لمجرد سؤال من جندي أبله يقف على باب السلسلة، يفتش حقيبتي، وعدستي، وعيني، يبحث عن أبتسامتي التي أنتظرها منذ سبعة عشر سنة، ويصادرها، يبحث في هويتي عن أخوتي، وفي جريدتي عن كلام سوف أكتبه، أو صورة قد ألتقطها. 

أتدرون كيف يشعر الكفيف، تماماً كالذي يسير من أمام باب الاسباط، ولا ينظر لعظمته لأنه لا يريد أن يرى الجنود، يشوهون كل ما حدثوه والده وجدتيه عن جماله. 

وهناك أيضاً تعلمت الحسد، ليس فقط من حجر كبير أو صغير في سور القدس، أو من وردة جميلة نبتت في حائط كنيسة بنية منذ ألف سنة، أو من هرة تستلقي بهدوء في ظل شجرة زيتون كبيرة، أو من تلك الفتاة التي قالت بلامبلاة في أخر هذا الزقاق بيتي. 

في طريق الالام متوجهاً نحو باب العمود، كنت أخطط كيف سأحدث عائلتي عن هذه المغامرة الجميلة، كيف تجاوزت الحدود بعد سبع عشرة عام لأرى مدينة دخلتها طفل، بإستهتار العاشرة من العمر، وكنت فيها كمن يقرأ نصاً بلغة غريبة، لأذكر شيء. 

قضي الامر، والتفت ورائي لأرى باب العمود، ما زال كما كان، تصعد الدرج وتسير قليلاً لتعود للحاضر، وليس مثله حاجز قلنديا، يضربك على رأسك لتعود للحقيقة، وتبدأ بالتفكير، أن أي ذنب قد أقترفت هذا اليوم، كيف لي أن أعيش مع كل هذه القهر الذي عشته في تلك الساعات التسع الاجمل في عمري. 

======
السبت ٢٥ رمضان 

2 comments:

  1. Anonymous3/8/13 12:18

    كيف قدرت توصف القدس .... هي هيك
    انا كمان اول مره بزورها وكانت اجمل ساعات بعمري

    ReplyDelete
  2. والأبطال الراقدين تحت التراب في تلك المدينة لم ينزحوا.. يستمرون بإخافة ذلك الجندي الذي يخشى أن تكون الشخص المناسب لتسكن روح أحدهم فيك

    ReplyDelete