4.04.2012

هنا وهناك، قبل عشرة اعوام.

كان الجو ابرد قليلاً من هذه الايام، كان الجو ثقيلاً تتمازج الرياح برائحة الحقد والغضب والخوف والطحين، كانت السماء مليئة بضوضاء الطائرات والدبابات ومكبرات الصوت، والجدران ملطخة بكلمات عبرية الاحرف، ورصاص وقدائف وبعض الدماء، كانت الليالي دون انوار ولا كهرباء، وكنت أنا ساهر مع اخوتي في البيت وهو يؤذن الفجر، عندما أحسينا بصوت غريب في بلدتنا الهادئة. 
هنا رمانة، بلدة تستلقي في مرج بن عامر بين جبل تعنك التاريخي ومجدو، تماماً مقابل تل الذهب وتحت جبل سكندر تاج ام الفحم، هي هنا منذ القدم، كان فيها الرومان وتركوا بعض الاثار، وفيها زيتون رومي يملك من العمر أكثر من ألف سنة، وفيها هذا الصباح صوت غريب قض مضجعها، وجعل أهل بلدتنا يهرعون ليدركوا كهنه. 
لم تبزغ شمس هذا الصباح، والليل شديد سواده، ولا ترى عندما تركز البصر سوى أشباح تأتي نحوك، أشباح تتحرك في مجموعات، وتقترب ... وتحبس انفاس الجميع وتقترب، أجسام عارية تقترب نحوك، أكثر من مئة جسم مرة واحدة، وعارية في برد هذه الليلة، هزيلة، نحيفة، خائرة الخطى، وتقترب أكثر، بعد أن تقتلك الصدمة والمفاجئة والدهشة، تهرع مثلي نحوهم، فهم بشر، نعم بشر مثلنا، تعطي احدهم قميصك وأخر حذائك، وتجري نحو البيت مثلما فعلت انا، وتيقظ أمك من نومها لتعمل لك بعض الشطائر وتحملها وأمك لم تفهم بعد ماذا يحدث وتجري نحوهم عائداً وتقول لهم واحمرار الخجل يملأ وجهك، هذا ما تيسر من خبز أمي، وهذه سترتي الوحيدة، وتجلس مقابلهم على الارض في ساحة المسجد منتظراً أن يقولوا أي شيء. 
هناك جنين، هاهي في مدى بصري، هاهي تشعلها رغم انقطاع الكهرباء انفجارات القذائف، وليفصل بيننا سوى شارع كان يصل بينها وبين حيفا مليء بدبابات وجيبات عسكرية، وموت، وعشر سنين منذ هذا اليوم. 
هناك جنين، وفيها D9 يدمر من المنازل ما استطاع اليه الوصول، ومن لم يمت من هدم بيته على رأسه أم من رصاصة أو قذيفة، أُقتيد الى معتقل سالم، حيث أمتلأ المعتقل، وضاق الجنود ذرعاً بمن قد اعتقلوا وتركوهم في مدخل بلدتنا الهادئة صباحاً على إلا يعودوا لجنين حتى أنتهاء الاجتياح. 
في بيتنا أجلس اليوم محاولاً النوم على كرسي بلاستيكي في غرفتي التي امتلأت بشباب لم يذوقوا النوم بعد، لم يتكيفوا مع حرارة غرفتي الدافئة بعد أن تسرب برد الجو الى عظامهم وهم الذين قد احتجزوا في العراء، وليس للنوم سبيلا. 
اليوم الرابع عشر للاجتياح، اركب التكسي نحو جنين عندما كانت جنين ابعد من الجنة عن بلدتي، نسلك طريقة جديدة في كل مرة نذهب لها، سوى طريق واحدة وهي طريق حيفا جنين، وهي طريق الشمال الاخرى الخارج من جنين بموازاة شارع 60 الذي يصل للناصرة، ونصل بعد الانهاك لها، اهرع نحو المخيم، مخيم جنين، كل شيء فيه مثلما لم يكن، فالبيوت مهدمة والورود قد ذبلت، وصورة منير وشاحي، صديقي أنا مصلوبة على جدارية بجانب صورة أمه وقد تهدم بيتهم فوق رؤسهم، أحبس دمعتي بصعوبة يومها، واقول في نفسي، مع السلامة يا صديقي، يشدني اخي من يدي علنا نساعد احدهم، ولا وقت في المخيم للبكاء ولا لرثاء صديقي، من المصلوب على الجدار يا منير روحك أنت، أم صورتك، أم أملنا، أم عجزنا، أجبني بربك كيف تحافظ صورتك على الابتسامة، أجبني بربك اين تذهب روح شاب لم يمضي من العمر سبعة عشر خريفاً عندما يقرر وحش "كاتربلر" انهاء أحلامها، أجبني بربك هل تتذكر الايام التي قضيناها بمعسكر الشهيد صلاح خلف بعد أن عرف بسجن الفارعة، اجبني... .
أبحث عن عمي هنا أو هناك، فلو كنت مكاني انت ايضاً لم تكن لتعرف أي حطام هنا كان بيته، ويرشدني الناس الى بعض الخيام، وأذهب حيث عمي لأجد خيام كثيرة تذكرني بصور اللاجئين في ما بعد النكبة، مصفوفة متلاصقة تحاشر بعضها على المكان ومن هول المنظر انسى لما قد اتيت، واذا دققت النظر لوجدت مثلي مقبرة دفنت الجثث والاشلاء بالجملة، وأناس يبكون من حولهم، وحجة تسعينية العمر تحتار الحيرة من المشاعر التي نقشت على وجهها، تقول لي، "انشالله مفقدتش غالي ياستي، الله بعين، الله بعين" 
هنا رمانة، بلدة حزينة تقع تماماً بجانب جدار معدني يجثو على ارضها من جهتين، وبجانب معتقل سالم المقام على ارضها، تماماً قبل معسكر تدريب لجيش الاحتلال، وبعد أخر "حاجز طيار" على طريق جنين سالم، أتذكر اليوم وهو ينادي لأذان الصباح، أنه قبل عشر سنين وأسبوعين وعدت نور أن نلتقي قريباً، وسألت عنها، وفتشت شواهد القبور، ولم أجد اليها سبيلا،،، أين صديقتي نور؟؟

1 comment:

  1. طالما هناك حياة.. فهناك امل

    ReplyDelete